نبض التغيير – سلسلة من أجل الوعي والتحول

نوهات خدر ختاري


في هذه السلسلة، أشارككم رؤى وتجارب ومواقف من قلب الواقع، تدعونا لإعادة التفكير في مفاهيم تربوية واجتماعية نمارسها دون وعي. هي دعوة لزرع الوعي، وفتح نوافذ للحوار، وبناء مجتمع أكثر شمولاً وعدلاً وإنسانية. وفي هذا النص، أتوقف عند موضوع يمسّ جوهر تكوين الطفل ومساره النفسي والتعليمي: اللغة الأم. كيف تؤثر على هويته؟ ما دور الأسرة ومؤسسات الطفولة المبكرة في تعزيزها؟ وهل يمكن أن تكون اللغة الأم جسرًا نحو الاندماج، لا عائقًا في طريقه؟

اللغة الأم ودورها في بناء هوية الطفل مسؤولية الأسرة ودور رياض الأطفال في تعزيز الانتماء والثقة بالنفس في هذا العصر الذي تتسارع فيه التغيّرات، وتزداد فيه التنقلات والهجرات، يعيش كثير من الأطفال في بيئات تجمع بين ثقافات وخلفيات لغوية متعددة. لم تعد اللغة مجرّد وسيلة للتخاطب، بل أصبحت ركيزة أساسية من ركائز تكوين الطفل، وجزءًا لا يتجزأ من إحساسه بذاته، وشعوره بالانتماء، وثقته بنفسه. تشير الدراسات الحديثة في ألمانيا، ومنها ما نُشر على موقع Tagesschau عام 2023، إلى أن التعدد اللغوي يعزّز من قدرات الطفل الذهنية، خاصة فيما يتعلق بالذاكرة والانتباه. كما أظهرت أبحاث أخرى نُشرت في Journal of Cognition أن الطفل الذي ينشأ على أكثر من لغة يطوّر وعيًا لغويًا أعمق، ومرونة ذهنية تساعده على التعلّم والتكيف بشكل أفضل. وهذا ما يجعل اللغة الأم أكثر من مجرد وسيلة للتواصل في المنزل، بل عنصرًا جوهريًا في نمو الطفل على مختلف الأصعدة. وأستطيع، من خلال خبرتي العملية كمستشارة تربوية في دور الحضانة اللغوية، أن أؤكد ذلك؛ فقد لمستُ عن قرب كيف يُسهم التعدد اللغوي في تعزيز هوية الطفل وبناء ثقته بنفسه.

اللغة الأم تحمل في طياتها المشاعر والذكريات والأصوات الأولى التي يسمعها الطفل. إنها صوت الحكايات قبل النوم، وأغاني الطفولة، وكلمات الحب والطمأنينة. إنها الرابط الذي يصل الطفل بجذوره الثقافية والعائلية، ويمنحه الشعور بالأمان والاستقرار. وعندما يُحرَم الطفل من لغته الأم، فإنه لا يفقد فقط مفردات، بل يخسر صلة وجدانية مهمة تشكّل جزءًا من هويته.

في بلدان الاغتراب، يتساءل بعض الآباء والأمهات:

"هل من الأفضل أن نخاطب أطفالنا بلغة البلد؟ هل استخدام اللغة الأم يربكهم أو يؤخرهم في تعلم اللغة الرسمية؟"

والإجابة بكل بساطة: تحدّثوا مع أطفالكم باللغة التي تعبّرون بها عن مشاعركم بصدق، والتي تحمل دفء العلاقة الأسرية. الطفل يحتاج إلى لغة يعيشها بطمأنينة، لا لغة مفروضة عليه. إن قوة العلاقة بين الطفل ولغته الأولى، هي ما يمكّنه لاحقًا من اكتساب لغات أخرى بثقة وسلاسة. ولا داعي للقلق إن تأخّر الطفل قليلًا في اكتساب اللغة الرسمية. فالأطفال يملكون قدرة طبيعية على التعلّم السريع، خصوصًا عندما ينشأون في بيئة داعمة، تشجّعهم وتمنحهم الإحساس بالقبول. المهم أن يشعر الطفل بالأمان، لا أن يُجبر على التخلي عن لغته الأصلية.

وهنا يأتي دور رياض الأطفال، كمكان حيوي في حياة الطفل. فهي ليست مجرد مساحة للعب، بل بيئة تعليمية مؤثرة، حيث تبدأ ملامح الشخصية في التكوّن، وتُزرع فيها بذور الثقة والانفتاح. الكلمات التي يسمعها الطفل هناك، وطريقة التعامل مع لغته الأصلية، تترك أثرًا كبيرًا في تكوين نظرته لنفسه وللآخرين.

عندما تعترف المؤسسة التربوية بقيمة اللغة الأم، وتُشركها في الحياة اليومية، فإن الطفل يشعر أن خلفيته موضع تقدير واحترام. وهذا يعزّز شعوره بالانتماء، ويفتح أمامه آفاقًا أوسع للتعلّم والتفاعل.

وقد أدركت ألمانيا هذا البُعد المهم منذ عام 2016، من خلال إطلاق برنامج Sprach-Kitas، الذي يهدف إلى دعم الأطفال في اكتساب اللغة بطريقة شاملة، دون إقصاء لغاتهم الأصلية. فالبرنامج لا يركّز فقط على اللغة الألمانية، بل ينطلق من احترام التنوّع اللغوي كمدخل إلى تربية لغوية متكاملة.

لكن ماذا لو رفض الطفل التحدث بلغته الأم؟

هذا الرفض شائع، وغالبًا ما يكون نتيجة لرغبة الطفل في الاندماج، أو لأنه يرى لغته "غريبة" أو "غير مرئية" في محيطه. في مثل هذه الحالات، لا ينبغي إجبار الطفل أو معاتبته، بل يُفضّل بناء علاقة إيجابية مع اللغة، من خلال القصص، الألعاب، التواصل مع الأقارب، وربط اللغة بمواقف دافئة ومحبّبة. المهم أن يشعر الطفل بأن لغته جزء طبيعي ومحبوب من حياته، لا عبء عليه التخلص منه.

في النهاية، اللغة الأم ليست عائقًا أمام الاندماج، بل جسر إضافي يساعد الطفل على بناء شخصية متوازنة، منفتحة، وواعية بجذورها. الطفل الذي يتقن أكثر من لغة لا يكتسب مهارة لغوية فقط، بل يتعلّم كيف يعبّر عن نفسه، ويتفهّم الآخر، ويتنقل بثقة بين العوالم الثقافية المختلفة.

فلنمنح أطفالنا فرصة أن ينموا بلغاتهم، أن يُسمَح لهم بأن يكونوا متعددي الانتماء، أن يحملوا أكثر من كلمة "أم"، و"بيت"، و"حب" في قلوبهم. ففي كل لغة يتحدثون بها، ينبض جزء من هويتهم، ويضيء درب من دروب مستقبلهم.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المَصادر -:

Tagesschau (2023): Mehrsprachigkeit verbessert die visuelle Merkfähigkeit

Journal of Cognition (2023): Bilingual children outperform monolingual children on executive functions