في سياق التحولات العنيفة التي عصفت بالمجتمعات الضعيفة، ووفق قراءة نقدية لواقع المجتمع الإيزيدي الراهن في ضوء (مدرسة فرانكفورت النقدية)، لا تبدو معاناة المجتمع الإيزيدي شذوذاً عن قاعدة تاريخية قاسية، إذ يُعاد إنتاج آليات الإقصاء والتفكيك وفق أنماط تتجاوز العنف المادي، لتطال مستويات الوعي والمعنى والرمز، ومن هذا المنطلق، يُمكن استحضار الإطار التحليلي لمدرسة فرانكفورت النقدية بوصفه عدسة تفسيرية لفهم ما يحدث من تآكل في البنية الرمزية للمجتمع الإيزيدي، حيث لا يكفي توصيف الألم، بل لا بد من مساءلة البُنى التي أنتجته ورسّخته.
فوفقاً للطرح النقدي الذي قدمته مدرسة فرانكفورت، لا يتم تدمير المجتمعات دفعةً واحدة، بل تُهدم تدريجياً من الداخل، عبر سلسلة من الإجراءات الرمزية والإعلامية والثقافية التي تستهدف بنية الوعي الجمعي وتُعيد تشكيله على نحو يكرّس التبعية، ويفرّغ الهوية من مضامينها الفكرية والروحية.
أولاً: اغتيال الرمزية واستهداف قدوة المجتمع الديني، الثقافي:
حيث تبدأ عملية التفكيك من النواة الرمزية (رموز المجتمع، ومرجعياته الفكرية والروحية)، ويتم ذلك عبر إعادة إنتاج هذه الرموز بشكل مشوّه أو تبخيسها ضمن الخطاب العام، بحيث تفقد مكانتها كحوامل للمعنى وركائز للهوية، وفي الحالة الأيزيدية، يتجلى هذا التهميش في تغيب الرموز الدينية والأكاديمية والثقافية عن الفضاء العام أو تقديمها ضمن أطر خطابية سطحية، مما خلق قطيعة رمزية بين الأجيال الصاعدة وإرثها الروحي، وساهم في انكسار السردية الجماعية التي تشكّل عصب الهوية.
ثانياً: تكريس السطحية والتفاهة كواقع ثقافي مهيمن:
في ظل تراجع المرجعيات وتفتت السرديات الكبرى، تهيمن مظاهر التفاهة والاستعراض على المشهد العام، وتُستبدل القضايا الوجودية الكبرى بمحتوى إعلامي سطحي، يبتلع العمق ويهمّش الفكر النقدي، ومن خلال ذلك، يُعاد توجيه انتباه الجماعة بعيداً عن ملفات مصيرية مثل العدالة الانتقالية، وتأثير الإبادة، وإعادة الإعمار، إلى قضايا انفعالية هامشية تؤجّج الانقسامات الداخلية وتُضعف مشروع النهوض الجماعي، وفي هذه البيئة، يُستبعد الأكاديمي والمثقف والناشط صاحب الرؤية لصالح شخصيات تُقدَّم لا لمحتواها، بل لقدرتها على البروز الإعلامي بمستوى شعبوي ساذج.
ثالثاً: توظيف الدين والهوية كأدوات أيديولوجية لإيقاف التغيير:
أما الأخطر في هذا السياق، فهو تحوّل المقدّس من حامل للمعنى إلى أداة للضبط الأيديولوجي، حين يُستخدم الانتماء للدين كسلاح لمنع النقد، وعرقلة مسارات التجديد، وتشويه المبادرات المدنية والإصلاحية بوصفها تغريباً أو خروجاً عن التقاليد!! ولقد واجهت العديد من المبادرات التي طرحتها نخب إيزيدية نهضوية هذا المصير، حيث صُوِّرت كأجندات خارجية أو كتهديد للهوية، فحُوصرت شعبياً، وقُيِّدت مؤسساتياً، وتُرك المجتمع في دائرة الشك والتوجس، لكن الحالة الراهنة يختلف كلياً عن سابقاتها، لإدراك الأيزيديين مدى تأثر مجتمعهم بفشل المحاولات السابقة.
الرؤية النظرية: مدرسة فرانكفورت وتحليل التفكك الرمزي
ما سلف ذكره ينسجم بعمق مع مخرجات النظرية النقدية لمفكري مدرسة فرانكفورت الذين نبّهوا مبكراً إلى خطورة الاستلاب الثقافي، وتحول المؤسسات المدنية والدينية إلى أدوات لإعادة إنتاج الخضوع، ففي كتاب (جدل التنوير)، يبيّن كل من: (هوركهايمر) و (أدورنو) كيف تُنتج الثقافة الجماهيرية رموزاً زائفة تستبدل الفكر النقدي بالامتثال العاطفي، وهو ما نراه في واقع المجتمع الإيزيدي، حيث يتم استخدام أسلوب تهمّش الصوت العاقل لصالح الخطاب التبسيطي والانفعالي.
أما (هربرت ماركوز) فيذهب إلى أن الإنسان ذو البُعد الواحد، فيُظهر كيف يُفرّغ الإنسان من قدرته على الحلم حين يُختزل في أُطر استهلاكية وأمنية، ويُفصل عن أدوات النقد والتحليل، وهي ذات المعضلة التي يعيشها الفرد الإيزيدي اليوم، إذ يُدفع إلى النجاة الفردية والانعزال بدل الانخراط في مشروع مجتمعي يعيد إنتاج المعنى والانتماء، وينتشل المجتمع من واقعه المزري، بمجمل قضاياه.
كما تحذر النظرية النقدية من تحويل الدين كوسيلة للارتقاء الأخلاقي إلى أداة أيديولوجية تشرعن الركود، وهو ما يُلمس بوضوح في بعض الخطابات الداخلية التي توظف الرمزية التقليدية لتكريس البُنى التراتبية التي تُعيق التحول الديمقراطي والمؤسسي داخل المجتمع.
في ضوء هذا التفكيك النظري والمجتمعي، يُطرح السؤال الآتي بوصفه دعوة للتفكر لا للتشاؤم، فهل ما يعيشه الأيزيديون اليوم من تهشيم للرمزية، وتسطيح للوعي، وعداء للمشاريع النهضوية، ليس إلا انعكاساً حياً لما حذرت منه النظرية النقدية؟
وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يبدأ مسار التعافي الحقيقي من لحظة اعتراف وجرأة؟ لحظة نعيد فيها مساءلة البُنى المُهيمِنة، ونؤسّس لوعي جمعي بديل، يجعل من العقل، والكرامة، والحرية، منطلقاً لبناء هوية أكثر تماسكا وصلابة؟ لأن إعادة بناء الذات الأيزيدية لا يمكن أن تتم تحت سقف الخطابات التقليدية، بل عبر استعادة المعنى، وممارسة نقد الذات، وتكريس مشروع إنساني مدني يستوعب الألم، ويحوّله إلى طاقة للبناء لا إلى ذريعة للانكفاء.