إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي حوار يتأسس، لإصلاح يتقدس (الحلقة التاسعة)

دلشاد نعمان فرحان


 

عادة التحولات الاجتماعية الكبرى تفرض أسئلتها بإلحاح حين تبلغ المجتمعات عتبة التأزم، ويبدو أن الواقع الإيزيدي، منذ انطلاق مشروع إصلاح بنيته المجتمعية، يعيش حالة من التوتر الجدلي الذي يعكس صراعاً بنيوياً عميقاً، فمن جهة تنهال ردود الفعل، بعضها إيجابي يثمّن المبادرة، وبعضها الآخر سلبي يتهم المشروع بما لم يُطرح فيه أصلاً، أو ينتقده البعض الاخر لأنه لم يتجاوز عتبة العموميات إلى الخوض في تفاصيل العقيدة والبنية التقليدية.

وبين هذا وذاك، تبقى الحقيقة الأهم، أن الجدل ليس جديداً على الشأن الإيزيدي، إذ هو امتداد لحالة مركبة من التوجّهات المتقاطعة والمصالح المتباينة، وكما يشير (بيير بورديو) في تحليله لبنية الحقول الاجتماعية، حيث يرى أن الصراعات ليست دائماً صراعات فكرية خالصة، بل كثيراً ما تكون انعكاساً لتفاوت فيما يُعرف بـ(رأس المال الرمزي) أي ذاك النفوذ المستتر الذي يُمارس باسم الشرعية الدينية أو الأخلاقية أو التاريخية.

ولعل أخطر ما في الأمر، أن التقارب من أسس العقيدة بات في نظر البعض خطاً أحمرا، لا يجوز التقرب منه، بينما يراه آخرون ضرورة ملحة لا يمكن لتغيير بنيوي أن يتحقق دون مواجهته بجرأة ومسؤولية، ومع ذلك، فإن مشروعنا الإصلاحي لا ينطلق من نوايا دينية أو سياسية، بل من تشخيص واقعي لحالة المجتمع، ساعياً إلى تقديم معالجات ترتكز على توافق اجتماعي أوسع، دون الدخول في مناطق التماس اللاهوتي الحاد في هذه المرحلة الحساسة.

لكن ما يثير القلق ليس اختلاف وجهات النظر بحد ذاته (فهو مشروع ومطلوب) بل هو إصرار البعض على تشويه الحقائق، وتوجيه اتهامات ويعلمون جيداً أنها باطلة، وما يدعو إلى التأمل في هذا الصدد، هو أن العديد من هؤلاء يمارسون في حياتهم الشخصية ما يتناقض جذرياً مع ما يرفعونه من شعارات، فبعضهم منخرط في علاقات عابرة للطبقات التقليدية أو حتى خارج الإطار الإيزيدي برمّته، ومع ذلك يتصدرون مشهد الاعتراض متذرعين بأمر "الحفاظ على الهوية"!!

إن هذا التناقض يعكس، مرة أخرى، ما يسميه بورديو بـ(الازدواجية الرمزية) حيث يُمارس الفاعل الاجتماعي سلوكاً معيناً في الواقع، بينما يتبنى خطاباً مغايراً حين يتعلق الأمر بالحقل الرمزي والتمثيلات العلنية، ففي ألمانيا وحدها، تتجاوز حالات الارتباط بين الأيزيديين وغير الأيزيديين الألف، ومع ذلك يُهاجم المشروع الإصلاحي من قِبل أشخاص تورطوا في ممارسات تخالف ما يدّعون الدفاع عنه.

وما يزيد الطين بلة، أن بعض رجال الدين المشاركين في بيانات الرفض، يعترفون في حواراتهم الخاصة بأنهم لا يمانعون الانفتاح، لكنهم يرضخون لضغوط سياسية وحزبية، في موقف لا يُمكن إلا أن يثير الخجل، حين تصبح المؤسسة الدينية أداة في يد القوى السياسية، بدلاً من أن تكون مرجعاً أخلاقياً وروحياً مستقلاً.

إن مثل هذه التناقضات تبرز حجم الحاجة إلى إصلاح لا يقتصر على الشكليات، بل يمتد إلى البنى العميقة للوعي الجمعي الإيزيدي، فكل طرف يرى نفسه الأصدق والأحرص والأجدر، دون اعتراف بأن الحقيقة لا تملكها جهة واحدة، وأن التعدد في الرأي لا يعني التهديد، بل هو مظهر من مظاهر حيوية المجتمع.

ومن المهم ان نذكر، في أن اللجنة التحضيرية لهذا المشروع ليست غريبة عن هذا النسيج، بل هي نتاجه، وتملك من الشرعية الاجتماعية، كغيره، ما يُخولها للمشاركة في صياغة مقترحات مستقبلية، ومن يعارض هذه الرؤية، له كل الحق في ذلك أيضاً، لكن من دون اللجوء إلى التحريض أو التشويه أو شخصنة الخلاف.

فكما قال بورديو، أن أعنف أشكال السلطة هي التي تُمارس باسم الشرعية الرمزية، وتفرض بداعي القدسية، والحقيقة إنها ليست كذلك، وعليهِ، فإن الإصلاح لا ينبغي أن يكون تهمة، بل ضرورة، والجدل لا يجب أن يتحول إلى خصومة، بل إلى فرصة لإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد، أكثر عدالة وانفتاحاً، طالما لا يمس صلب العقيدة، ولا يسيس جوهر الفكرة.