إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي إحياء النصوص، روح المنصوص(الحلقة الرابعة والعشرون)
دلشاد نعمان فرحان
عبر التاريخ، واجه المجتمع الإيزيدي موجات متكررة من الإبادات الجماعية والاضطهادات الممنهجة، ما اضطره إلى تطوير استراتيجيات دفاعية جوهرها التَّقِيَّة الدينية، حيث لجأ الأيزيديون إلى إخفاء معتقداتهم الأصلية، قدر الإمكان حفاظًا على وجودهم، ويمكن مقاربة هذا السلوك الجمعي من خلال نظرية: (الحقل الاجتماعي) ل(بيير بورديو) إذ يُمثّل هذا التكيّف اضطراراً استراتيجياً مع بُنى الهيمنة الرمزية التي فُرضت على المجتمع، ما أجبرها على التخلي، مؤقتاً، عن رأس مالها الرمزي من أجل البقاء ضمن حقل اجتماعي معادٍ.
في ظل هذا السياق القسري من العنف، تباطء انتقال الموروث الديني الإيزيدي شفهياً عبر أجيال متعاقبة ضمن نطاق اجتماعي ضيق، مما أدى إلى حدوث انزياحات لغوية وتشويهات بنيوية في المتون الدينية نتيجة التراكمات التأويلية غير المنضبطة، وقد أسهم غياب التدوين الرسمي للنصوص في إضعاف المرجعية الأصلية للعقيدة، بما يهدد الركائز الميتافيزيقية الأساسية للهوية الدينية.
من هذا المنطلق، لا تُعدّ الدعوة إلى تنقية النصوص الدينية الإيزيدية وتدوينها في كتاب موحّد مجرد فعل توثيقي، بل تُعدّ مشروعاً إصلاحياً وجودياً يهدف إلى استعادة صدقية النصوص وتحصين الهوية الجمعية من التحريفات العشوائية، وهو مسار طبيعي سبق أن مرت به ديانات عديدة في المنطقة، وهذا يؤكد أن تقنين وتدوين النص الديني جزء من تطور الحقل الديني، لا نقيض له.
انطلاقاً من هذا، فإن تدخل المجلس الروحاني الإيزيدي الأعلى، وعلماء الدين الحافظين للنصوص الدينية، وبمشاركة النخبة الأكاديمية المتخصصة في فلسفة الدين، يُعدّ ضرورة تاريخية لإعادة تشكيل الحقل الإيزيدي من الداخل، وتنظيم تفاعلاته ضمن توازن جديد يجمع بين البنية التقليدية ومتطلبات الحداثة، كما أن هذا المشروع لا ينفصل عن إصلاح أوسع في التربية الدينية، يرتكز على تعليم الأجيال تعاليم عقيدية مصاغة بدقة منهجية وروحية، تُعيد للأيزيدياتي حيويتها وتُحصّنها من الاختراق أو الذوبان.
إن تدوين النصوص الدينية الإيزيدية، بعد تنقيتها من الشوائب الدخيلة، وفق مراقبة من رجال دين مقتدرين في حفظهم لتلك النصوص شفهيا، لا يُمثّل مجرد استجابة للمآسي الماضية، بل هو فعل تأسيسي لمستقبل يستعيد فيه المجتمع الإيزيدي سرديّته الأصيلة، ويُعيد إنتاج ذاته كهوية دينية حية، قادرة على التفاعل والبقاء، عبر كتابٍ موحّد يعكس جوهر الفلسفة الإيزيدية ويمنحها شرعية في مواجهة قوى التشويه، مع التأكيد بأن الأيزيديون لا يملكون كتبا مقدسا، وإنما أحاديث وأقوال وحكم تعطي مرونة كافية للتعامل اليومي مع الحياة.