هذه هي القصّة المذهلة لكيفية تحويلك إلى شخص ذو طبيعية غير مجدية، كونه ينتمي لكوكب الأرض حسب دفتر النفوس الصادر عام (1957).
طوال حياتك كنت تستخدم أشياء كثيرة: يديك، ملاعق من فافون، الماء الحار في شهر كانون الثاني، خيالك المريض. وغالبا ما كنت تستخدم قدميك المفلطحتين في التنقل، والتمتع بأسفارك بقدر ما تسمح به دراهمك القليلة. من الواضح البداية كانت في لقائك التلفزيوني الأخير وطرحك حلولا على مقدم البرامج الذي استضافك، بدلا أن تجيب على أسئلته هو. أعتبر الأفندي حلولك فنتازيا ترتقي الى صناعة فلم مثل (أفاتار)، وبالتالي هذه ليست حكايتك وحدك، إنما قصّتي أيضا ككاتب. والكتابة كما لا تعرف وليس لديك فكرة، بأنها تخرج من الروح، وهي نتاج قلوبنا وعلاقتها بالحب أزلية، تمتزج برشة عطر مرت على شفاه المحبوب ودخل في رجفة الخيال في ساعة شوق لتفريغ طاقة زائدة انتفت الحاجة اليها. الكتابة حرّة رغم قيودنا، ورغم سجننا الصغير والكبير. الكتابة منا، ونحن من نخضع لها في الأخير. الكتابة يجب أن تكون حرّة؛ والا لن تعرف كيف تقود وتحرك عجلة الحضارة العملاقة التي تتفيأ بظلها.
الكتابة بستان فواح في غرفة نومي تكثر فيه أشجار التين والرمان والعنب، وتحلى فيه الأحلام. الكتابة مهد، تحركه يمين أمي. وبها، أي بالكتابة أفي لأمي ديونها التي على رقبتي. أيش العمل، والأفكار تلبط على اللسان مثل شبوط فتي، فتنزلق في أمسية بهيجة، بالتأكيد ليست كهذه، وانما كتلك التي اتمناها لنا. أمسية لقاء دون موعد مسبـق، فيحـق عـليـنا تـثـبـيـت مــــقــولة : "ربّ صدفة خير من ألف ميعاد". في ديباجة حلول قضيةالفرمان، أكاد أكون قاب كلمتين أو أدنى من نقاش ساخن يشبه ذلك الصمون العراقي الخارج لتوّه من فم فرن حجري في السوق التحتاني من شنكال أيام السبعينات.
الحل الذي لا حل سواه هو العمل الدؤوب الواعي الصبور، لإطلاق سراح العقل الأيزيدي من كهوفه المظلمة، ولنزع القابلية للإخضاع والانصياع للاستبداد والسيطرة باسم الدين، والسياسة، والقومية. والعواطف الرخيصة. مع الأبقاء قدر الأمكان على الثوابت لتبقى شامخة. وقد يبدو هذا الحل نظريا في طبيعته، ولكن على الأيزيدي أن يترجمه الى واقع ملموس ان أراد الخلاص. وقد تبدو الخطوة الأولى طويلة الأمد، وعليه ينبغي على الأيزيدي الرجوع الى الحل الفردي كما فعلت أنت لتوك ـ أن تطلب الأمر ذلك ـ في معالجة مشاكله المتعلقة، كما كان يقول البطل الشيخ خيري الشيخ خدر في الأسبوع الأول من الفرمان. هذه قصة مذهلة، وبعد هذا اللقاء المتلفز ستحولك قصتك الى شخص ذو طبيعة غير مجدية؛ لأنك تكلمت بما لا يرضي الأسياد، ولا يليق بالضحايا من أمثالك بعض الكتاب الأغبياء يمكنهم كتابة أربع صفحات عن وظيفة تافهة، بينما أنت رجل حقيقي تنتمي لهذا الكون، ووصفت الأمر بجملة، وتوقفت عند ذلك، ثم، أردت أن تذهب الى حال سبيلك. تعلم أن دورك هو التعبير عمّا تعنيه مشاكلك، وليس التطبيل لها؛ ولكنهم لم يدعوك أن تحلم بسلام. فجئت تبث لي شكواك. أني أنا القروي عندما يأخذني الحنين من بوابة شنكال صوب قراها الطينية المدهشة أكتفي بسماع إحدى من ثلاثية فنان الأمراء والملوك فريد الأطرش: (عش أنت، الربيع، أول همسة)، أو ربمّا مصافحة صوت قحطان العطار. أو قراءة كتاب لعلي الشوك. علي الشوك لديه لغة جيدة وبوسعه أن يخلصك من أية نقطة تفتيش دون أن يشك بك الحرس للحظة بأنك تنتمي الى سرب الزمن الجميل مع الاحتفاظ برونقة العينين، وبهاء الروح، ودفء القلب. هذا هو صديق عليّ الشوك الذي أقرأ له. قد تكون لم تسمع بـ (عليّ الشوك)، ولا تحب أن تسمع فريد الأطرش، وأنني أعلم مثلك تماما ليس للنجاح وصفة مجربة لكي نمررها للآخرين فيستفادوا. كذلك ليس للكبار والعظماء والعباقرة قالب ثابت لكي نقلدهم. نحن مختلفون، فلنتقبل بعضنا بموجب هذا الاختلاف أجبتني بآهة ممزوجة بحزن عميق قائلا: على الأيزيدي أن يفهم أنه في فرمان منذ الأزل، وسيبقى في لجّة الفرمان للأبد. ولكن يا صديقي في رأي المتواضع، لا نستطيع فهم المجتمع الأيزيدي الشنكالي بظواهره السلبية ما لم نرجع الى الوضع الذي كان عليه، بدءا من فرامين الدولة العثمانية عليه، ومرورا بسنوات القحط والجوع والمرض والفقر والأمية، ومن ثم قانون الترحيل الإجباري في عام (1975)، والحرب العراقية الإيرانية والحصار ثم سقوط بغداد في (2003). في السنوات المبكرة من حياتي، وفي ليلة شتائية طويلة، كنت بضيافة أبن عم لي، وما أن طال الليل كالعادة وخلصت السوالف والألعاب، احضروا لنا بعضا من التين المجفف وطاسة كبيرة مملؤة بالماء القراح من ينابيع السكينية، وما أن رآني ابن عمي أتناول التين بنهم حتى أخبرني ضاحكا: أن تناول التين المجفف في الليل يورث الغازات في البطن، ولا تسألني عن السبب. وبطبيعة الحال كنت أعلم السبب الحقيقي وراء نصيحته الذهبية تلك. الملعون لا يريدني أن أشاركه التين. ومع ذلك سألته: وما السبب لذلك؟
بالطبع لم أنتظر جوابا منه لأنك لو قلبت موجة الراديو الى الموجة القصيرة، ستسمع المذيع، وهو يسأل لاهثا: ما سبب تواجد تمثال للملك الآشوري آشور بانيبال في مدينة سان فرانسيسكو؟ تبتسم بداخلك ابتسامة صفراء؛ لأنك تعلم علم اليقين، أن أي عراقي لا يعرف السبب، ويدعي أنه عالم به؛ سينتفخ بغازات قد تصل تأثيرها الى سابع كون.