اللغة الأم والهوية في مجتمعات منقسمة: كيف نربي جيلًا واثقًا من جذوره؟

نوهات خدر ختاري


 

اللغة الأم تحتضننا قبل أن تلمسنا أذرع العالم.

مع اللغة الأم، نبدأ الحياة قبل أن نفتح أعيننا.

 

تُعدّ اللغة الأم أكثر من وسيلة للتواصل؛ إنها الحاضنة الأولى للهوية الثقافية، والوعاء الذي تتشكل فيه الخبرات المبكرة للفرد، والركيزة التي تنمو من خلالها الثقة بالنفس والقدرة على التعبير عن الذات. وقد أكدت العديد من الدراسات التربوية والنفسية في السياق الألماني أن دعم اللغة الأم للأطفال والمراهقين من أصول مهاجرة أو من أقليات لغوية يساهم بشكل مباشر في تعزيز هويتهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي.

ولكن اللغة الأم لا تبني فقط الهوية، بل تبني أيضًا العلاقات.

هي أول خيط في نسيج العلاقة بين الأم وطفلها، وأول جسر بين الطفل وأسرته، بينه وبين مجتمعه وأصله.

حين تتحدث الأم بلغتها القلبية، تصل مشاعرها بصدق ودفء لا يمكن ترجمته.

اللغة الأم تحمل لحن الحنان، ودفء الذاكرة، وهي من أهم ركائز التعلق الآمن والنمو العاطفي السليم.

وحرمان الطفل من لغته الأم، هو في بعض الحالات حرمانه من أمه، ومن تاريخه العاطفي، ومن ذاكرته المتجذرة.

لكن السؤال الأعمق يبرز حين لا يكون هناك اتفاق داخل المجتمع نفسه حول ماهية اللغة الأم، ولا حتى تسميتها. وهنا، تطرح الأسئلة نفسها بإلحاح:

"وماذا عن الأطفال الذين ينشأون في مجتمعات غير متفقة على تعريف لغتها؟"

ماذا نقول للأطفال حين ينشأون بين خطابين متعارضين: أحدهما يسمّي اللغة باسم ثقافي محدد، والآخر ينفي عنها صفة اللغة أو ينسبها إلى هوية أخرى بالكامل؟

ماذا يحدث لهوية هؤلاء الأطفال عندما يرَون أنفسهم محاصرين في صراعات سياسية وثقافية تتعلق بتسمية لغتهم، أو إنكارها، أو إسكاتها؟

فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل أيضًا ساحة لصراع رمزي على التمثيل، والانتماء، وحق الوجود.

كمثال على ذلك، يمكن النظر إلى حالة المجتمع الإيزيدي، حيث لا يوجد حتى اليوم توافق واضح حول ما يمكن اعتباره "اللغة الأم": هل هي الكردية (بلهجتها الكرمانجية)؟ أم ما يُطلق عليه "الإيزيدية/إيزيدكية"؟ أم ربما العربية؟ هذا التباين لا يُعبر فقط عن اختلاف لغوي، بل يعكس أيضًا تعقيدًا في الهوية التاريخية والثقافية والدينية التي يتعامل معها الأطفال يوميًا في بيئة تُعاني من غياب مرجعية لغوية وهووية موحدة في بعض الأحيان.

كيف يمكننا تكوين هوية متوازنة لأطفالنا إذا كنّا نحن، كبالغين، ما زلنا نبحث عن إجابةٍ لسؤال: من نحن؟

كيف نبني جيلًا جديدًا ينتمي بثقة إلى أصوله، إذا لم نحسم نحن معركة الانتماء؟

كيف نعلّم أطفالنا احترام ذواتهم، إذا كانت لغتهم موضع شك دائم، أو مادة للإنكار والسخرية؟

الاستقلال النفسي يبدأ بالقبول، والقبول يبدأ بالصدق.

علينا أن نمنح أطفالنا الحق في أن يعرفوا لغتهم، أن يسمّوها دون خجل، أن يستخدموها دون خوف، وأن يحملوها معهم إلى العالم باعتزاز لا يُصنع بالشعارات، بل يتجذر من الاعتراف الصادق بجذورهم.