إصلاح شأننا المجتمعي ( حلقة 12 الى 19 (

دلشاد نعمان فرحان


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

جذر الهوية، فكر القضية (الحلقة الثانية عشر)

 

في خضم التحديات المتفاقمة التي يواجهها المجتمع الإيزيدي، لا سيما في سياقات الهجرة والشتات، تبرز الحاجة إلى مرجعية موحدة، دينية ومدنية، لا بوصفها خياراً تنظيمياً فحسب، بل كضرورة وجودية واستراتيجية، فهل يختلف اثنان على أهمية بناء هذه المرجعية؟ الجواب يكاد يكون بديهياً في ظل ما يشهده الواقع الإيزيدي من تشتت في الخطاب، وتضارب في الرؤى، وضعف في التأثير على دوائر صنع القرار الدولي والوطني على حد سواء.

إن غياب مرجعية شاملة وفاعلة يُعد أحد أبرز المعوقات البنيوية التي تعترض سبيل النهوض الإيزيدي المعاصر، وخصوصاً في المجتمعات الأوروبية التي فتحت أبوابها للناجين من الإبادة الجماعية الأخيرة، دون أن تُفتح معها أبواب التمثيل المؤسسي الحقيقي، وهذا الغياب لا يعكس فقط أزمة في التنظيم، بل يعكس، بعمق، غياب بوصلة فكرية واجتماعية توجه الطاقات نحو هدف مشترك.

وتستلزم الضرورة التاريخية اليوم تأسيس مؤسسة إيزيدية ذات طابع تركيبي: تجمع بين الرمزية الإيزيدية التي تشكل روح المجتمع وذاكرته، وبين التمثيل المدني-الثقافي الذي يحاكي الواقع المؤسساتي للأنظمة الديمقراطية الحديثة، وهذه المؤسسة لا يجب أن تكون صوتاً خطابياً فقط، بل بنية منهجية تُمارس الاجتهاد الفكري، وتؤطر الخطاب العام، وتضبطه بمعايير عقلانية متزنة تستمد شرعيتها من قيم الإيزيديين الإجتماعية والثقافية والأخلاقية، وليس من الولاءات الضيقة أو الاعتبارات الظرفية.

كون النظرية البنائية في علم الاجتماع، كما طرحها بيتر (برغر وتوماس لوكمان) توضح على أن "الواقع الاجتماعي يُبنى من خلال الفعل التفسيري للجماعة"، وهذا بالضبط ما تفتقر إليه الحالة الإيزيدية الراهنة، حيث غياب المشترك الرمزي والبنيوي الذي يصوغ الوعي الجمعي ويوجه التفاعل العام نحو أهداف جامعة، ومن هنا، يصبح مشروع المجلس الإيزيدي في المهجر ليس مجرد هيكل تنظيمي، بل فعلاً تأسيسياً لإعادة بناء المعنى الجماعي وتوجيهه نحو العدالة، والكرامة، والاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية.

ولعلّ أبرز ما ينبغي على هذه المرجعية أن تفعله هو بلورة خطاب عقلاني ومتزن أمام المحافل الدولية، يعبّر عن تطلعات الإيزيديين في العدالة الانتقالية، وجبر الضرر، وضمان عدم تكرار الإبادات مستقبلًا، كما ينبغي عليها أن تكون ذات رؤية استشرافية، تتجاوز إدارة الأزمات إلى إنتاج تصورات استراتيجية حول الهوية الدينية للإيزيديين، والمواطنة، والاندماج دون الذوبان.

إن مهمة كهذه لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تأسست هذه المرجعية على قاعدة مؤسساتية تشاركية، تحسن قراءة الواقع وتحويل الذاكرة الجمعية من حالة التألم (البكاء على الأطلال) إلى فضاءٍ للتنظيم والتحرك الواعي، وكما يقول (بيير بورديو) فإن "السلطة الرمزية هي التي تُصاغ في الحقول الاجتماعية باعتبارها شرعية لا تُناقَش"، عليهِ، يجب أن تنبثق هذهِ الشرعية من القاعدة المجتمعية، وتُبنى بتوافق نسبي أخلاقي عميق.

في المحصلة، ليست المرجعية الإيزيدية الموحدة مطلباً نخبوياً، بل ضرورة تمليها اللحظة التاريخية، لأنها التعبير الأرقى عن إرادة البقاء، والانتقال من الهامش إلى مركز الفعل، ومن الندب إلى المبادرة، ومن الشتات إلى البنية.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي ألم الحقيقة، أمل الطريقة (الحلقة الثالث عشر) تعيش اليوم الهوية الدينية للإيزيديين لحظةً مفصلية في تاريخها، لحظة لا تُقاس بطول الزمن، بل بعمق التحديات وتضادّ الخيارات، ففي زمن الشتات والانكشاف الحضاري، تُواجه هذه الهوية خطرين متناقضين في ظاهرهما، متماثلين في مآلاتهما: خطر الذوبان التدريجي في ثقافات الغير من جهة، وخطر الانغلاق المتصلب على الذات داخل قوقعة التاريخ من جهة أخرى، وكلا الخطرين لا يؤدي إلى النجاة، بل إلى التآكل البطيء للمضمون الروحي والثقافي الذي شكّل جوهر الشخصية الإيزيدية عبر قرون. إن سؤال الهوية، كما يُطرح في السياق الإيزيدي، ليس سؤالاً عن ماضٍ منقرض أو عن ذاكرة فولكلورية تُستحضر عند الحاجة، بل هو سؤال وجودي قلق: كيف نحافظ على الذات دون أن نحاصرها؟ وكيف ننفتح على العصر دون أن نذوب فيه؟ هنا تتقاطع هذه الإشكالية مع ما عبّر عنه (فيودور دوستويفسكي) في أعماله الكبرى، لا سيما في رواية (الإخوة كارامازوف)، حينما رسم ملامح الصراع الداخلي بين الروح الأصيلة والضغوط الخارجية التي تسعى لقولبتها ففي رأيه "الإنسان إذا فقد الله، فقد نفسه"، وفي السياق الثقافي، يمكن القول: إن الجماعة إذا فقدت معناها الجوهري، فقدت مبرر وجودها. الهوية الدينية الإيزيدية، إذن، ليست قناعاً اجتماعياً بل كينونة، متجذرة في تراث ديني غني ورؤية كونية خاصة، لكنها، في ظل المتغيرات الجيوسياسية ووسائط العولمة، مطالَبة بإعادة تعريف ذاتها، لا من خلال التنازل عن خصوصياتها، بل عبر تجديدها وتجسيدها في أطر جديدة، لأن الهوية التي لا تُترجم إلى فعل، تبقى محصورة في الذاكرة، أو ما يمكن تسميته بـ(النوستاليجا المعيقة). وهنا، فالتحصين لا يعني العزلة، بل القدرة على التميّز وسط التفاعل، والتجديد لا يعني الانسلاخ، بل استعادة الروح القديمة بأدوات معاصرة، لأن خلق خطاب إيزيدي حديث، يُعبّر عن الذات دون أن ينكر الآخر، ويستثمر الإرث دون أن يُجمّده، هو ما يشكّل الترياق الحقيقي ضد كل من الذوبان والانغلاق. وقد بيّن (دوستويفسكي) في أعماله، هشاشة الإنسان حين يُنتزع منه إيمانه أو قيمه، وهذا ينطبق على المجتمع أيضاً، فإذا ما أراد الأيزيديون البقاء فاعلين في زمن الحداثة، وما بعد الحداثة، لا بد أن يعيدوا هندسة هويتهم، لا عبر إعادة إنتاج الماضي حرفياً، بل من خلال بلورته إلى طاقة أخلاقية وجمالية قادرة على الإسهام في الحضارة المعاصرة. ولذلك، فإن الهوية الدينية للإيزيديين مطالَبة اليوم بالانتقال من حالة (الذاكرة المحمية) إلى (الذاكرة المنتجة)، حيث يصبح الماضي ركيزة للمستقبل، لا عائقاً أمامه، فكما أن الرواية الكبرى لا تُكتب إلا بصدق داخلي وتحوّلات درامية، كذلك فالهوية لا تُصاغ إلا بإرادة نقد ذاتي ورؤية استباقية. وفي المحصلة النهائية، فإن الهوية ليست وثناً يُعبد، بل مشروعاً مستمراً، يتجدد بقدر ما يُحصّن، ويتحصّن بقدر ما يُبدع.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

نظام الذات، خطاب الثبات (الحلقة الرابع عشر)

 

إن أحد أبرز معالم الأزمة في الواقع الإيزيدي المعاصر، لا يكمن فقط في التحديات الخارجية أو الضغوط البنيوية، بل يتجسّد (بوجه أكثر عمقًا) في غياب التنظيم المؤسسي، وتَفشّي النزعة الفردانية العشوائية التي تُبدّد الجهد وتُعطّل الأثر، وإننا اليوم بحاجة ماسّة إلى هندسة جديدة للفعل الجماعي، تُبنى لا على النوايا الطيبة فحسب، بل على ركائز عقلانية تُحاكي نظريات التوازن والاتساق البنيوي، كما طُرحت في الفلسفة الكلاسيكية.

وفي هذا السياق، تُعدّ نظرية المدينة الفاضلة لأفلاطون نموذجاً تأصيلياً يمكن الاستئناس به، لا بوصفه نموذجاً طوباوياُ جامداً، بل كخريطة فكرية تُرشدنا نحو مفهوم التنظيم الأخلاقي والسياسي العادل، فأفلاطون لم يكن يُنظّر لمجتمع يحكمه الاستبداد أو الامتيازات الطبقية، بل لمجتمع تُوزَّع فيه المهام بحسب الاستعدادات، وتُدار فيه المؤسسات بعقلانية معيارية، ويُفهم فيه الانسجام لا كقمع للاختلاف، بل كتناغم وظيفي يخلق وحدة في التنوّع.

فكما أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا بوجود طبقات وظيفية تؤدي أدوارها في سياق كلّي منظم، كذلك يمكن القول إن النهضة المجتمعية الإيزيدية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تأسيس مجالس تخصصية تؤطر العمل الجماعي وتُخرج المبادرات من الطور الانفعالي إلى الطور البنيوي، لأن هذه المجالس، حتى وإن كانت نسبية ومحدودة في بدايتها، فإنها تشكل بذوراً أولى لنمط جديد من الوعي المؤسسي، ولقطيعة ضرورية مع إرث الفوضى والتداخلات الشخصية.

العمل الفردي، حين لا يُؤطر بمنظومة، يتحول من مبادرة خيّرة إلى طاقة مهدورة، ومن هنا فإننا لا نحتاج فقط إلى إرادة التغيير، بل إلى هندسة التغيير، وذلك عبر بناء مؤسسات مدنية مستقلّة تُدار بكفاءات نوعية، وتشتغل على وفق أُطر معيارية واضحة، تُراعي روح التخصص وتحترم منطق المسؤولية.

في فلسفة أفلاطون، العدالة ليست فقط فضيلة فردية، بل هي شرط لبقاء المدينة، وكذلك التنظيم المؤسسي اليوم ليس رفاهاُ إدارياً، بل هو ضمانة وجودية لإدامة المعنى والفاعلية، وإن أي محاولة للنهوض المجتمعي، في ظل غياب البنية المؤسسية، ستظل محكومة بمنطق الاجتهادات الشخصية وردود الأفعال فقط.

ومن هذا المنطلق، يصبح إنشاء مراكز أو مؤسسات أو مجالس استشارية وفنية خطوة محورية لإعادة ضبط البوصلة، ووضع سياسات مستندة إلى تشخيص علمي ووعي استراتيجي، وهذه الخطوة لا تهدف إلى احتكار الرأي، بل إلى خلق بيئة مهنية تسمح بتكامل الجهود وتراكم المعارف.

ففي النهاية، كما كانت المدينة الفاضلة عند أفلاطون مشروطة بحُسن توزيع الوظائف وتحكيم العقل، كذلك فإن المجتمع الإيزيدي لن ينتقل من التهميش إلى الفاعلية إلا إذا اختار أن يُعيد إنتاج ذاته ضمن مشروع عقلاني، أخلاقي، ومؤسسي، يؤمن بأن التقدّم ليس صدفة، بل نظام يُبنى بالاجتهاد والانضباط.

 

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

عقلنة المسار، نقاء القرار

 (الحلقة الخامسة عشر)

 

في ظل ما يعصف بالمجتمع الإيزيدي من انقسامات، وتحديات وجودية متفاقمة، تبرز الحاجة الملحّة لتشكيل مبادرة اجتماعية وثقافية جامعة، تُعلي من شأن المشترك الديني والاجتماعي على حساب التباينات السياسية والولاءات الحزبية، ومن هنا، لا يُطرح العمل التنظيمي بوصفه رؤية فكرية فقط، بل كضرورة وجودية لصياغة وعي جمعي يتجاوز الاصطفاف ويتجه نحو التأسيس، ولهذا فإن تأكيد الحياد السياسي ليس موقفاً ظرفياً، بل شرطاً بنيوياً لبناء خطاب جامع ومستقل.

وفي هذا السياق، يمكن استلهام نظرية الفعل التواصلي لـ(يورغن هابرماس) التي ترى أن الفعل الاجتماعي لا يكتمل إلا عندما يتم عبر توافق عقلاني غير قسري، يقوم على الاعتراف المتبادل واحترام وجهات النظر المختلفة، فالمبادرة التي تسعى لتوحيد الأيزيديين، لا تنطلق من منطق فرض الرأي أو تأطير الآخر، بل من مبدأ الإنصات للكل، والنظر لكل رأي كعنصر مساهم في بلورة التوافق، لا تهديداً له.

إن تحصين المشروع من الاستغلال السياسي أو الشخصي لا يُعد تدبيراً تقنياً فحسب، بل يُشكل بُعداً أخلاقياً يعزز من مصداقية المبادرة ويمنح كل إيزيدي، بغض النظر عن توجهه السياسي، الحق في المساهمة من موقعه دون إقصاء أو خشية من التوظيف، وإن أي محاولة لجرّ مشروع الحوار الإيزيدي إلى صراعات القوى الحزبية، أو احتكاره من قبل نخبة متحيّزة، ستُقوّض بنيته وتعيد إلى الفوضى التي تسعى هذه المبادرة إلى تجاوزها.

وعليه، لا تهدف هذهِ المبادرة إلى إنشاء حزب أو تيار سياسي، بل إلى صياغة خطاب مجتمعي عابر للتمايزات السياسية، ويعبّر عن الهوية الإيزيدية بوصفها روحاً جامعة، لا أداة للمزايدة، لأن الهدف الجوهري هو الخروج من شرنقة الانقسام، عبر مأسسة الحوار، وتدشين مؤتمر يُفضي إلى تشكيل مجلس يمثل الأيزيديين في المهجر، انطلاقاً من التوافق لا التنازع.

ولعل المقارنة بين الحالة الإيزيدية الراهنة ونظرية (المجال العام) عند هابرماس تؤكد أن التجمعات التي لا تستند إلى الحياد والشفافية تغدو عُرضة للاختطاف الرمزي والسياسي، في حين أن المبادرات القائمة على مبدأ (المشاركة الحرة والمتساوية) تؤسس لشرعية أخلاقية جديدة، تتجاوز السلطة الشكلية إلى سلطة المعنى والتوافق، لذا فإن نجاح المؤتمر مرهون بالقدرة على تحويل الاجتماع الإيزيدي من فضاء للتنازع إلى فضاء تواصلي، يُنتج لغة جامعة تتجاوز الانتماءات الفردية إلى الانتماء الكلي.

لذلك، لابد من العمل على ان يكون المؤتمر كمنصة للجدل والنقاش لمحاور مهمة تخص اوضاع الأيزيديين في مختلف مناطق تواجدهم، منصة تكون ابوابها مفتوحة للجميع، ويتخلى فيها عن لغة الاتهام لصالح الإنصات والحوار البناء، وبالتأكيد، الهدف هو ايجاد ادوات ووسائل لاستمرارية هذا الحوار، حتى يتحقق الهدف بثوابت ومشتركات يلتقي عندها الجميع.

وفي المحصلة، فإن شرط بقاء هذه المبادرة واستمرارها ليس قوتها التنظيمية فقط، بل حيادها السياسي، ومشروعيتها التوافقية، وارتكازها على وعي جمعي ناضج، يرى أن التعدد لا يُنافي الوحدة، بل يؤسسها.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

مسار رؤيوي لكيانٍ حيوي (الحلقة السادسة عشر) 

 

 

إن تحديات العصر المعقدة التي تواجه الأيزيديين، تستدعي إعادة بناء منظومته القيادية بما يتوافق مع تعقيدات الحداثة ومفاهيم المدنية، والتطور والتقدم الحضاري بصورة عامة، لإن استمرار القيادات التقليدية لم يعد كافياً، بل أصبح يشكل، في كثير من الأحيان، عائقاً أمام بناء مؤسسات تمثيلية عقلانية، ومن هنا تبرز الحاجة إلى تأسيس قيادة دنيوية جديدة، مدنية، منتخبة، تعبّر عن تطلعات فئات المجتمع كافة، وتضمن الشفافية، والكفاءة، والتمثيل العادل لعموم مناطق تواجد الأيزيديين.

ويستلهم هذا المشروع من أطروحات المفكر الألماني ماكس فيبر في التمييز بين (السلطة التقليدية والسلطة العقلانية القانونية)، حيث يرى:

"أن المجتمعات الحديثة تحتاج إلى انتقال من أنماط الحكم الوراثية والرمزية إلى نظم تستند إلى المشروعية القانونية والمؤسسية"، والقيادة الإيزيدية الراهنة، وهي ذات طابع روحي محافظ، لا تزال تتموضع ضمن النموذج الأول، ما يُضعف مرونتها في الاستجابة لتحديات العصر مثل: الهجرة، العولمة، والتمثيل العادل، وتحديات العولمة .. وأن تأسيس القيادة المدنية المقترحة قد تساعدها في الكثير من مجالات حياة الأيزيديين.

تواجد الأيزيديين الجغرافي عبر بلدان متعددة في العراق، سوريا، جورجيا، أرمينيا، أوكرانيا، روسيا، ألمانيا، السويد وأستراليا.. والخ. أفرز حالة من (الهوية المركّبة) التي يصعب اختزالها ضمن مرجعية رؤية واحدة، لأن الإيزيدي اليوم هو في آنٍ واحد مواطن في دولة متقدمة وعضو في ديانة شرقية؛ وهو ما يتطلب بنية قيادية، تستطيع أن توازن بين الخصوصية الدينية والانتماء الوطني للدول الجديدة، وبناء (مجلس دنيوي عالمي) موازٍ، سيسمح بتمثيل هذه الهويات دون التورط في تعارضاتها أو الانغلاق في سرديات الماضي.

إذ يُذكر الفيلسوف الأمريكي جون رولز في كتابه (نظرية في العدالة):

"العدالة ليست مجرد فضيلة من فضائل النظام الاجتماعي، بل هي أولى تلك الفضائل"، ومن هذا المنطلق فإن بناء قيادة مدنية إيزيدية يجب أن ينطلق من مفهوم العدالة التمثيلية لا من تراتبية المقدس، ولهذا فإن المشروع المدني يجب أن يكون حاملاً لذاكرة الأيزيديين وتاريخ معاناتهم، لكنه في ذات الوقت لا يتورط في التقديس السلطوي.

ويمكن الاستفادة من تجربة الشتات اليهودي في بناء لوبي عالمي فعّال يرتكز إلى العمل المؤسسي والعقلانية السياسية، بعيداً عن الارتهان للمقدسات، وتشكل الجاليات الإيزيدية في أوروبا، لا سيما في ألمانيا والسويد وهولندا وبلجيكا، وأيضا في أمريكا وأستراليا، حواضن خصبة لهذا المشروع، لما تمتلكه من إمكانيات تنظيمية ومجتمعية، وكخطوة أولية فإن تأسيس مجلس دنيوي ممثل لهذه الجاليات، برئاسة دورية وهيكلية ديمقراطية، سيكون بمثابة اللبنة الأولى نحو خلق خطاب إيزيدي حديث، مستنير، ومتماهٍ مع روح العصر، ويتيح له الالتحاق بالركب العالمي. 

فقد آن الأوان ليتجاوز المجتمع الإيزيدي البنية الكهنوتية المغلقة التي تحصر السلطة بيد قيادات متشتتة، نحو فضاء مدني تعددي، ومن المهم إعادة تعريف "القيادة" باعتبارها وظيفة تعاقدية لا رمزية أو عملية وراثية، لإن تشكيل قيادة دنيوية موازية لا ينفي أهمية المرجعية الروحية، بل يضعها في سياقها الطبيعي كحاضنة روحية، وعليه فإن هذا المشروع، إن تحقق، سيكون منعطفاً تاريخياً في مسار الأيزيديين، ويؤسس لأول مرة وعي جمعي عقلاني قادر على التفاوض باسمهم، دون أن يكون أسير توجه معين.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

نشوة الضياع وتحدي الصراع (الحلقة السابعة عشر)

 

في التشتت الجغرافي والتشظي الهوياتي، تظهر الجاليات الإيزيدية في أوروبا ككيانات تنطوي على إمكانيات نوعية لا يُستهان بها في مسار التغيير الاجتماعي والثقافي، لأن حرية التعبير والتفكير، والولوج إلى فضاءات التعليم والنقاش العام، إضافة إلى توفر الموارد المؤسسية، تمنح هذه الجاليات مكانتها الصحيحة، لا بوصفها حاملة لذاكرة جمعية فقط، بل بوصفها فاعلاً تاريخياً قادراً على إعادة إنتاج الذات عبر تفعيل طاقاتها الكامنة في فضاء الحداثة، وبهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى المهجر باعتباره هامشاً وجودياً، أو خروجا من الدائرة، بل ينبغي تأطيره كمجال بنيوي لإعادة صياغة المشروع الإيزيدي برمّته، انطلاقاً من شروطه المتحققة هناك.

ويجد هذا الطرح جذوره في نظرية الفعل التواصلي عند (يورغن هابرماس)، الذي رأى أن التواصل العقلاني القائم على التفاهم المشترك، وليس الإكراه أو المصلحة الفردية، هو أساس التنظيم الاجتماعي الديمقراطي، وإن هذا الفعل التواصلي لا يفترض فقط وجود فضاء عام حرّ، بل يفترض أيضاً وجود ذوات قادرة على الدخول في حوار غير تشويهي، حيث يتم تحرير الفعل من أنماط الهيمنة التقليدية، ومن هنا، فإن الرهان الحقيقي على الجاليات الإيزيدية في أوروبا يكمن في كونها أكثر تحرراً من أنساق القمع الرمزي والاجتماعي والعشائري التي ما زالت تعيق التفكير المستقل داخل المجتمع الإيزيدي في الوطن الأم.

غير أن الطاقات الفردية، مهما بلغت من التميز، تظل عاجزة عن تشكيل وعي تاريخي ما لم تتحول إلى بنى مؤسسية فاعلة، فالفرد، بوصفه كينونة ناقصة، لا يكتمل إلا ضمن شبكة من العلاقات التشاركية التي تمنحه إمكانات الارتقاء إلى الفعل الجمعي، لأن المشروع الإصلاحي المدني، الذي ينشد تجاوز القوالب التقليدية، لا بد أن يتأسس على استقلالية القرار المعرفي، وعلى نفي التبعية للمرجعيات العشائرية التي غالباً ما تنتج إعادة تدوير للأزمة في صورة هوية ماضوية مغلقة.

وفي هذا الإطار، لا يمكن لأي مشروع طموح أن ينهض ما لم يُعهد بقيادته إلى نخب أكاديمية وثقافية تملك القدرة التأويلية والمعرفة النقدية، والتخطيطية،  بعيداً عن الشخصيات ذات الرؤية الأحادية التي تهيمن على المشهد الراهن، لأن إعادة الثقة في المشروع الإيزيدي تتطلب فاعلاً جمعياً يتموضع خارج دائرة الأدلجة، ويتعامل مع قضايا الهوية، والحقوق، والوجود، كحقول تفكير لا كموضوعات للتمجيد العاطفي.

وكما يشير هابرماس، فإن:

"شرط إمكان الفعل العقلاني هو الاعتراف المتبادل بين الفاعلين بوصفهم متساوين في الكفاءة التواصلية"، وعليهِ، فإن الانطلاق نحو مشروع إصلاحي يتجاوز الماضوية، ويتطلب توحيد الجهود تحت مظلة من التفاهم العقلاني، لا التنازع الهوياتي، لذلك، يمكن للجاليات الإيزيدية أن تتحول من جزر معزولة إلى شبكة فكرية-مؤسسية قادرة على صياغة المستقبل، لا عبر رفض الماضي، بل عبر تأويله تأويلاً يعيد له معناه ويحرّره من سطوة الميتافيزيقا.

ففي النهاية، الإصلاح ليس فعلاً تقنياً، بل هو مشروع أنطولوجي يتطلب استدعاء العقل العمومي، وإعادة بناء الذات الجمعية ضمن أفق من التواصل غير المشوّه، وحيث تتحقق الحرية بوصفها اشتقاقاً من التفاهم، لا من الهيمنة.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

تدويل القضية، تعزيزُ للهوية (الحلقة الثامنة عشر)

 

تُشكّل قضايا المجتمع الإيزيدي اليوم نموذجاً مكثفاً لتقاطع التاريخ مع المأساة، والهوية مع العدالة، في فضاء يزداد فيه الانقسام الجيوسياسي تعقيداً، وتتشابك فيه حقوقهم كمجتمع أصيل في أرضهم مع محددات المصالح الدولية، وفي ظل هذا التداخل المعقد، تبرز ضرورة إعادة صياغة الشأن الإيزيدي ضمن الأطر العالمية لحقوق الإنسان أيضاً، لا بوصفه شأناً محلياً محدوداً، بل كملف إنساني ذي صلة مباشرة بالبنية القيمية للنظام الدولي ذاته، لأن المأساة الإيزيدية، بما تتضمنه من انتهاكات إبادة جماعية وتطهير عرقي وديني، لا تندرج فقط ضمن سرديات الاضطهاد، بل تدخل مباشرة في محور (الحق في الوجود والكرامة غير القابلة للتصرف) بحسب ما تؤكده المواثيق الأممية.

ولأجل ذلك، فإن انخراط المجتمع الدولي في دعم المشروع الإيزيدي ومأسسته لم يعد خياراً أخلاقياً فقط، بل ضرورة قانونية، كون إضفاء الصفة الحقوقية العالمية على هذا المشروع يمنحه الشرعية الأخلاقية والسياسية التي يحتاجها لتجاوز منطق التعاطف المؤقت إلى منطق البناء المستدام، حيث الدعم القانوني والسياسي الخارجي، حين يُدار بحنكة مؤسساتية، يتحول إلى رافعة استراتيجية تُؤطر المشروع داخل بنية الشرعية الدولية، وتمنحه أدوات الضغط، الرصد، والمساءلة، بما يضمن دمج قضايا الأيزيديين ضمن الحقول الحقوقية الدائمة، لا المؤقتة.

وفي هذا السياق، فإن المقاربة الفلسفية لما يُعرف بـ"العدالة التصحيحية" توفّر بعداً نظرياً مهماً يمكن استثماره، ذلك أن ما يطالب به الأيزيديين اليوم ليس امتيازاً فوق القوانين، بل إنصافاً يعيد لهم ما سُلب من وجود وحق واعتراف، ولذا، فإن تفعيل الأدوات القانونية الدولية، وعلى رأسها آليات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، يشكل شرطاً بنيوياً لأي مشروع نهوض إيزيدي يُراد له الاستمرار ضمن منظومة الاعتراف الكوني، إذ أن القضية الإيزيدية، من هذا المنظور، ليست مجرد نداء للمساعدة، بل تموضع لذاتهم الجمعية في قلب فلسفة الإنصاف والاعتراف، أي الأنصاف باعتراف حصول الجينوسايد عليهم، والاعتراف بأنصافهم في المحاكم والمجتمعات الدولية كشعب تعرض للإبادة.

كما يشكل الانخراط النشط في بنية المنظمات الدولية، لا سيما تلك المعنية بالحقوق الثقافية والدينية، خطوة استراتيجية نحو مأسسة العمل الإيزيدي، بما يمنحه بعداً وحدوياً واستمرارية مؤسساتية، ومأسسة المشروع لا تعني فقط التنظيم الإداري، بل تعني خلق فضاء جمعي للفاعلية السياسية والمعرفية، كأن تكون فيه قضايا الأيزيديين مؤطَّرة ضمن سرديات عالمية قابلة للتداول والتعاطف والتحرك المشترك.

والحقيقة، فإن المشروع الإيزيدي، في سعيه للتحول من الهامش إلى المركز، لا يمكن أن يحقق قفزته النوعية إلا عبر خطاب عقلاني حقوقي وعن طريق توحيد جهد وإمكانيات المؤسسات الإيزيدية الدولية، بتجاوز اللغة الانفعالية إلى لغة البرهان الشرعي والقانوني، وهنا تحديداً، يتبلور دور المجتمع الدولي، ليس كمنقذ عابر، بل كشريك أخلاقي ومؤسسي في ترسيخ قيم العدالة، والاعتراف، والكرامة الإنسانية لشعبٍ خَبِر الألم، لكنه لم يفقد قدرته على النهوض من رماده.

 


 

إصلاح شأننا المجتمعي، والحوار الإيزيدي

تمويه القداسة، ترويضٌ للسياسة (الحلقة التاسعة عشرة)

 

ونحن نعيش التشظي الوجودي والاضطراب المؤسسي، يبرز عامل بنيوي يكاد يكون المحرّك الأساس في استدامة الأزمة وتفاقمها، إذ أن التداخل غير المنضبط بين الحقل الديني والحقل السياسي، حيث إن غياب القطيعة الإبستمولوجية بين ما هو مقدّس وما هو مدني لا ينتج فقط تداخلاً وظيفياً، بل يُنتج حالة من التهجين الأيديولوجي التي تسمح بإعادة تشكيل السلطة على أسس لا عقلانية، يُختزل فيها الوعي الجمعي في نماذج خضوعية مؤدلجة.

وقد بيّن ماكس فيبر في تحليله لظاهرة السلطة أن "الشرعية التقليدية ترتكز على الإيمان بالطابع المقدّس للعادات الموروثة، وليست قابلة للنقاش العقلاني"، وهو توصيف دقيق لما يعانيه الأيزيديون من استغلال ديني باسم القداسة، بحيث تتحوّل فيه الرمزية إلى أداة للهيمنة، ويُستثمر الإيمان كآلية لإنتاج الإذعان، وهذا النمط السلطوي لا يتأسس على المشروعية القانونية أو الكفاءة المؤسساتية، بل على بنية كاريزمية هجينة تكرّس نوعاً من "التسلط الروحي" الذي يتعدى حدوده الرمزية إلى الفضاء المدني، ليشوّه إمكانات التنظيم السياسي والعدالة الاجتماعية.

وفي الحالة الإيزيدية، يُلاحظ كيف أن بعض الأطراف السياسية باتت تُعيد إنتاج نفسها ضمن سردية دينية نفعية، والعكس صحيح أيضاً، حيث تُهيمن على الطبقات البسيطة من المجتمع، مستفيدة من هشاشة الوعي النقدي وانغلاق قنوات التثقيف المدني إلى حدٍ ما، وهذا التواطؤ الخفي بين رجال الدين والسياسيين ليس سوى إعادة تدوير لنسق السيطرة الرمزية، حيث يتم الترويج لهويات ماضوية مغلقة، يُقيَّد فيها المجال العمومي بمنظومة من العادات، لا من القوانين.

الفصل بين الدين والسياسة، في هذا السياق، لا يعني إنكار البُعد الروحي أو إسقاطه من المعادلة الاجتماعية، بل هو محاولة لحمايته من التشييء السياسي، ولحماية الإرادة الجمعية من الانقياد اللاعقلاني. وكما أشار فيبر: "السياسي الحقيقي هو من يُوازن بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية"، أي بين ما يعتقده داخلياً وما يترتب على قراراته عملياً، وإذا ما أسقطنا هذا المفهوم على الحالة الإيزيدية، فإن ما يُمارسه بعض الأحزاب السياسية اليوم باسم الدين "الإيزيدي" لا يُراعي أخلاق المسؤولية بقدر ما يخضع لمنطق الامتيازات والانتماءات الضيقة.

وبلا شك أن التأسيس لفضاء مدني قائم على الكفاءة لا على الأعراف العشائرية أو العادات والتقاليد، يتطلب خطاباً تفكيكياً يُسائل السلطة التقليدية، ويحرر المشترك الاجتماعي من طغيان الموروث غير المتسائل عنه، كما أن التباين في الرؤى لا يُبرر القطيعة أو الإقصاء، بل يدعونا للبحث عن لغة جامعة تؤسس للتواصل لا للتنازع، وتُعيد إنتاج العلاقات على قاعدة الاعتراف التبادلي لا الهيمنة الأحادية، لأن المجتمع الإيزيدي، بوصفه نسيجاً من علاقات ما قبل السياسة، لا يمكن أن يُبنى من جديد إلا عبر إعادة هندسة علاقاته الداخلية ضمن أفق تعاقدي، تُلغى فيه أشكال الوصاية وتُفتح فيه إمكانيات التداول الديمقراطي.

وفي نهاية المطاف، لا بد من الإقرار بأن ما يفصل بين الانحطاط والنهوض، ليس فقط في أدوات الحكم، بل في مضمون الشرعية التي يُبنى عليها الاجتماع السياسي، وفقط حين يتم تحييد المقدّس عن التوظيف السلطوي، يمكن للهوية أن تتحرر من أسرها، وللمجتمع أن يستعيد سيرورة بنائه الحرّ.